بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمائه ، والصلاة والسلام على المجتبى من أنبيائه ، وعلى آله وصحبه وأوليائه .
وبعد :
فهذا بحث مختصر في قاعدة " الاجتهاد لا ينقض بمثله " أُورده لتعم الفائدة المرجوة من طرحه.
وسأتناول هذه القاعدة بالحديث عنها من حيث أهميتها ، ومن ناحية المعنى الإفرادي لها ، والمعنى الإجمالي ، كما سأتطرق إلى ذكر الأدلة عليها ، وإيراد بعضٍ من الفروع الفقهية المتعلقة بها والمبنية عليها .
أولا : أهمية هذه القاعدة :
هذه القاعدة مهمة لكل طالب علم شرعي ، فلا بد له العناية بها ، والتفقه فيها ، بمعرفة الأحكام المتعلقة بها ، وإدراك آثارها ؛ حيث إنها مما يكثر سؤال الناس فيها وفي أحكامها .
كما أنها تفيد القضاة ، والمفتين ، ومن في حكمهم ، فهي تعالج الأحكام الصادرة عنهم ؛ ولذا كانت من الأهمية بمكان .
ثانياً : المعنى الإفرادي للقاعدة :
اشتملت القاعدة على ثلاث كلمات لا بد من الإيضاح لمعناها ، وهي : الاجتهاد ، والنقض ، والمثل .
-فالاجتهاد : بذل الوسع في طلب الأمر وهو افتعال من الجهد . والمراد به هنا : بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها .
-والنقض : إفساد الشيء بعد إحكامه ، والتناقض : خلاف التوافق .
-والمثل : المراد به هنا : الشبه والنظير .
ثالثاً : المعنى الإجمالي للقاعدة :
هذه القاعدة يوردها بعض العلماء بقوله : (الاجتهاد لا ينقض بمثله ) ، والبعض الآخر يقول : (الاجتهاد لا ينقض باجتهاد) وهما بمعنى واحد وإن اختلف اللفظ .
وتفيد هذه القاعدة أن المجتهد إذا أفتى أو قضى بناء ً على اجتهاد ، ثم اجتهد ثانية – لوقوع ما يستدعي اجتهاده – أو اجتهد غيره ، فأدى الاجتهاد الثاني إلى خلاف ما أدى إليه الاجتهاد الأول ، فإن ما ثبت بالاجتهاد الأول لا يُنقَض حكمه ، ولا يرجع فيه بعد نفاذه ، ولا يلزم من عمل بموجب الاجتهاد الأول أن يعيد – إذا كان مما تتصور فيه الإعادة – ولكن يغير المجتهد الحكم في المستقبل لانتفاء الترجيح الآن .
رابعاً : الأدلة على القاعدة :
الدليل الأول : قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فقوله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } دلت هذه الآية على أنه لا ينبغي لنبي أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنِّ والفداء إلا بعد أن يعظم شأنه ، وتتم له القوة والغلبة على عدوه ، وهذا لا يتحقق إلا بعد أن يثخن في الأرض .
ثم قال : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } فهذه الآية فيها إنكار على ما وقع منهم وهو فداء الأسرى بالمال ، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : فلما أسروا الأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما - : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا نبي الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) . قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم ، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكني من فلان – نسيباً لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت . فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهما أدنى من هذه الشجرة ) وأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } إلى قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } .
والحاصل أن الآيتان صريحتان في أنه لا ينبغي أن يكون لنبي من الأنبياء أسرى حتى يثخن في الأرض ، فإذا أثخن في الأرض صح له اتخاذ الأسرى ، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشاورته لأصحابه واختلافهم على قولين أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد واختار القول القائل باتخاذ الأسرى ، فلما تم الأمر واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأسرى وأخذ منهم الفداء ، بين الله عز وجل لهم أن هذا الفعل الذي فعلوه اجتهاد خاطئ ، وأن الصواب هو القول الآخر ، ولذا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه - رضي الله عنه - . ومع هذا فإنه من المعلوم أن ما نفذه النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الأسرى لم يتم نقضه بل بقي على حاله ، وبهذا تكون الآية دليلاً على هذه القاعدة . والله أعلم .
الدليل الثاني : أن كلا الأمرين اجتهاد فليس أحدهما بأولى من الآخر , فلا ينقض المتأخر منهما المتقدم ؛ إذ إن نقض الاجتهاد بمثله يؤدي إلى التسلسل واضطراب الأحكام .
خامساً : الفروع الفقهية المتعلقة بالقاعدة والمبنية عليها :
من الفروع الفقهية المبنية على هذه القاعدة ما يلي :
1-لو اجتهد فظن طهارة أحد الإنائين فاستعمله وترك الآخر ، ثم تغير ظنه لم يعمل بالثاني بل يتيمم بلا إعادة في الأصح .
2-إذا حكم الحاكم بشيء ، ثم تغير اجتهاده فلا ينقض الأول وإن كان الثاني أقوى ، غير أنه في واقعة جديدة لا يحكم إلا بالثاني ، بخلاف ما لو تيقن الخطأ .
3-لو صلى شخص إلى جهة معينة بناء على الاجتهاد في طلب القبلة ، ثم اجتهد مرةً أخرى في القبلة فتغير اجتهاده ، فإنه لا يحكم على صلاته الأولى بالبطلان ؛ لأن مبناها على الاجتهاد والاجتهاد لا ينقض بمثله .
4-لو كان لرجل ثوبان أحدهما نجس ، فتحرى بأحدهما وصلى ، ثم وقع تحريه على طهارة الآخر لم يعتبر الثاني .
هذا والله أسئل أن يعم بالنفع كاتب هذا الموضوع وقارئه .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين